المقامة الأولى
مقامة المعلّم
قال أحمد العمراني : جلستُ مع صديقي الميداني نتذاكر أمر المدارس ، ماهو حديثٌ منها ودارس .وصار يحدّثني عن أمر المعلمين ، ويخصّ بحديثه المتقدمين . فقال : درسّني في المرحلة المتوسطة معلّم كسول ، من أكبر صفاته الخمول . ذو سحنةٍ عجيبةٍ ، وصاحب طلعةٍ غريبةٍ . في الثقل يشبه الفيل ، وفي القصر كالبرميل . أجمل مافي رأسه صلعته ، وأحسن ما في رجله عرجته . له أنفٌ قصيرٌ ، وفمٌ كبيرٌ . أما أخلاقه فله أجمل الصفات ، وأحسن السمات . ثرثار كثير الكلام ، مهذارٌ لا يميّز بين الحلال والحرام . يحبّ سبّ الطلاب وشتمهم ، ويهوى رفس تلاميذه وضربهم . إذا سبّ أحداً منهم تمكن ، وإذا ضربه تفنن . يحضر الحصة بعد أن ينقضي ربعها ، ويضيّع بالشتم نصفها . وسأذكر لك بعض مواقفه العجيبة ، وشيئاً من أفعاله الغريبة .
حضرتُ ذات يومٍ متأخراً ، وكان من عادتي الحضور مبكراً . فلما طرقتُ عليه الباب ، أدخلني دون جواب . ثمّ نظر لي نظرة المتكبّر ، ومشى بالقرب مني مشية المستهتر . ثمّ أردف قائلاً : يا كثير النوم ، يا أسوأ القوم . أيّها المهمل المتكاسل ، يا من عن مدرسته متثاقل . إلى متى ننذركم ؟ وحتى متى عن التأخر ننهركم ؟ ثمّ ضربني على ظهري ضربةً ، كأنّه استخدم حربةً . وأوقفني طيلة الحصة وقوف الذليل ، وصار ينفخ في يده كالأزميل . وبدأ يشير إلى خارطةٍ على السبورة ، يبيّن للطلاب موقع رأس تنورة . ويشرح لهم كيفية حفر الحقول ، وعملية استخراج البترول . وهو ينظر للطلاب نظرة استهتار ، وينهق بين حينٍ وآخر كالحمار . وأنا أنظر إليه ، وأدعو ربّ السماء عليه . أتمنى أن يصيبه إسهال ، أو يؤلمه حلقه فيكثر السعال ، أو يقع فتنكسر رجله السليمة ، أو يحوّله ربي إلى بهيمةٍ . وقبل انتهاء الحصة ، ودون أن يكمل المبجّل القصة . أخذ دفتر العلامات ، وخصم مني ثلاث درجاتٍ . بعدها أمسكني بيدي الضعيفة ، وضربني بالجدار ضربةً خفيفة . فعمدتُ ألا أكتب الواجب الذي طلبه ، وألا ألخص الدرس الذي رغبه .
ولمّا حضرتُ في اليوم الثاني ، قال لي : تعال أيّها الجاني . أعطني دفترك قبل أن أقضي عليك ، هل كتبتَ الواجب الذي لديك ؟ فلمّا رآني تأخرتُ ، وعن تقديم الدفتر اعتذرت . قال : آهٍ أيّها الماكر ، يا تدعي أنّك مذاكر . بالأمس تتأخر ، واليوم لا تحضر الدفتر ! فأمسكني من أذني وشعري ، وضربني على كتفي وظهري . وسبّني كما يسبّ السافل ، ولعنني كما يلعن الجاهل . وقال : كنتُ أعتبرك من خيرة الطلاب ، وأعزّك معزة الأحباب . لكنك يا ميداني تغيّرت ، وعن السابق تحوّلت .
فقلتُ له : أيّها المعلّم الكريم ، وصاحب القلب الرحيم . لكلّ جوادٍ كبوةٌ ، ولكلّ مجتهدٍ غفوةٌ . اصفح يصفح عنك ربّ السماء ، وارحم يرزقك الله النعماء . فقال : تنصحني أيّها السافل الحقير ، وتردّ عليّ يا فقير . فانزعجتُ من كلامه أيّما انزعاج ، وشبّهته في قلبي بالقرود والنعاج . ثمّ رمى عليّ حقيبتي ، وطردني من حصتي . خرجتّ بعدها من مدرستي كالحزين ، وجلستّ بالقرب من جدارها كالمسكين . فأردتُ أن أنتقم من ذلك الكريه ، وآخذ ثأري من المعلّم السفيه . فجاءتني فكرةٌ خطيرةٌ ، أن أضربه بحجرةٍ صغيرةٍ . فلمّا خرج من مدرسته ، وتوجّه لسيارته . هجمتُ عليه هجمة الهمام ، وضربتُه في جبينه بالحجر الصمصام . فانشقّ جبينه ، وكثر أنينه .
أُخذتُ بعدها إلى السّجن لمدة أسبوع ، ذقتُ فيها مرارة العطش والجوع . تنازل بعدها عن حقّه مقابل مبلغٍ من المال ، بعد أن شكا لوالدي سوء الحال . نقلني أبي بعدها لمدرسةٍ بعيدةٍ ، تعوّدتُ فيها على حياةٍ جديدةٍ ، وعدتُ لسيرتي الحميدة .
ملاحظة / هذه مشاركتي الأولى : إذا وجدت تفاعل أكملت معكم بعون الله تعالى .